التطبيع التركي السوري- بين التوقعات المتباينة وتحديات إعادة رسم النفوذ

المؤلف: محمود علوش10.20.2025
التطبيع التركي السوري- بين التوقعات المتباينة وتحديات إعادة رسم النفوذ

يشهد ملف التقارب التركي السوري عودة قوية إلى صدارة الاهتمامات، وذلك مع الجهود الحثيثة المبذولة لإنعاش مسار الحوار الثنائي الذي انطلق قبل حوالي عام ونصف برعاية روسية. وتعكس الإشارات الإيجابية المتبادلة في الفترة الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بفكرة التطبيع من كلا الطرفين، بالإضافة إلى الدعم الروسي المحوري لهذا المسار.

وعلى الرغم من الحماس الظاهري لأنقرة تجاه التطبيع والذي قد يبدو أكبر من حماس دمشق، إلا أن مرونة دمشق في التخلي عن الإصرار على جدول زمني محدد للانسحاب التركي من الأراضي السورية، واستبدال ذلك بمطلب الالتزام الصارم بالانسحاب الكامل واحترام سيادة سوريا، يكشف عن رغبة مماثلة لدى الرئيس بشار الأسد في إعادة الدفء إلى العلاقات مع تركيا، وإن كانت تنطلق من دوافع مختلفة.

وتتجلى أهم هذه الدوافع في الفوائد المتوقعة من التطبيع، وعلى رأسها تعزيز الشرعية الخارجية للنظام السوري، وتحقيق مكاسب اقتصادية هامة قد تمثل شريان حياة للاقتصاد السوري المتهالك.

ومع ذلك، فإن إبداء كل من أردوغان والأسد نوايا حسنة تجاه التطبيع، تزامنًا مع تحديد سقف التوقعات المتباينة، يشير بوضوح إلى أن هذه العملية ستكون رحلة طويلة وشاقة مليئة بالتحديات والصعوبات، وأن الوصول إلى الهدف المنشود يستلزم تقديم تنازلات متبادلة من الطرفين.

فمن جهة، تسعى تركيا إلى أن تتعاون دمشق معها في معالجة مخاوفها الأمنية المشروعة تجاه مشروع الحكم الذاتي الذي تقوده وحدات حماية الشعب الكردية، وصلات هذه الوحدات بحزب العمال الكردستاني المحظور، وتوفير بيئة آمنة ومستقرة لإعادة اللاجئين السوريين الموجودين على أراضيها إلى وطنهم، أو على الأقل الجزء الأكبر منهم، بالإضافة إلى دفع جهود الحل السياسي للأزمة السورية. وقد ربطت أنقرة استعدادها لبحث إمكانية الانسحاب العسكري من سوريا بتحقيق هذه الأهداف.

في المقابل، حددت دمشق توقعاتها الواسعة النطاق والتي تتمحور حول انسحاب كامل للقوات الأجنبية المتواجدة على أراضيها بشكل "غير شرعي"، والعودة إلى الوضع الذي كان قائمًا قبل اندلاع الصراع في عام 2011. ويبدو هذا التوقع الأخير بالغ الحساسية، لأنه يربط التطبيع بشرط جديد يتمثل في قبول تركيا لمبدأ العودة إلى ما قبل عام 2011، على الرغم من أن تدخلها العسكري في سوريا بدأ بعد ذلك بخمس سنوات.

ويعني هذا الشرط عمليًا أن أنقرة سيتعين عليها الانخراط بشكل جدي في جهود "تصفية" آثار الصراع، وليس مجرد تسويته وفقًا للمبادئ التي ينص عليها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. والجدير بالذكر أن تركيا أبدت مؤخرًا استعدادًا أكبر لتقبل هذا التوقع، مع تجميله بفكرة المصالحة الوطنية الشاملة بين النظام والمعارضة، بهدف تطويره إلى عملية إصلاح سياسي حقيقية.

ويبدو أن مطلب دمشق بجعل الانسحاب التركي الكامل أساسًا لعودة طبيعية للعلاقات التركية السورية هو تحصيل حاصل، إذ لا يمكن تصور مثل هذه العودة في ظل الوجود المستمر للقوات التركية على الأراضي السورية. ويبدو مشروع التطبيع في جوهره مصممًا لكي يتم على مراحل تدريجية، وصولًا إلى التطبيع الكامل والشامل الذي لا يمكن تحقيقه بدون إنهاء الصراع المستمر.

وحقيقة أن التطبيع الكامل مشروط بإنهاء الصراع يشير بوضوح إلى العقبات الكبيرة التي تواجه هذا المشروع، والتي لا تقتصر فقط على صعوبة إعادة بناء الثقة وترميم العلاقة بين أردوغان والأسد بعد ما يقرب من عقد ونصف من العداء والتوتر، أو على إشكالية الوجود العسكري التركي في سوريا، وتعقيدات التعاون الثنائي في ملف الوحدات الكردية.

إن النظر إلى التطبيع من زاوية العلاقات التركية السورية فقط لا يساعد في فهم الدوافع الكامنة وراءه بشكل كامل، ولا في تقدير آثاره المحتملة والواسعة النطاق على الصراع السوري أولًا، وعلى مستقبل النفوذ الإقليمي والدولي في سوريا ثانيًا، وعلى الجغرافيا السياسية الإقليمية ككل ثالثًا. وهنا تبرز أهمية الدور الذي يلعبه كل من العاملين الإيراني والأمريكي كعقبة محتملة أمام مسار التطبيع، لأنه – في حال تحققه – سيؤدي حتمًا إلى إعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي والدولي في سوريا في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب.

إن فكرة العودة إلى المفاوضات الثنائية المباشرة مرة أخرى من أجل التأسيس لمرحلة جديدة من التطبيع، لن تكون مجدية تمامًا إذا لم تأخذ بعين الاعتبار هذين العاملين على وجه الخصوص، لأن كلًا من طهران وواشنطن تمتلكان القدرة على محاولة عرقلة مسار التطبيع إذا وجدتا أنه سيهدد أو يضعف سياستهما ومصالحهما في سوريا.

وبغض النظر عن المؤثرات المحيطة بمشروع التطبيع، فإن فرص نجاحه تتوقف بالدرجة الأولى على مدى استعداد كل من أردوغان والأسد لدفع التكاليف الباهظة المترتبة عليه مقابل الحصول على المزايا والفوائد التي يسعى إليها كل طرف. ويظهر الاعتراف بالمخاوف الأمنية التركية المشروعة، وما يعنيه ذلك من إضفاء نوع من الشرعية على الوجود العسكري التركي في سوريا حتى إشعار آخر، وإعادة تصميم الجانب الأمني في العلاقات التركية السورية المستقبلية، كأحد الأثمان الكبيرة التي سيتعين على الأسد دفعها.

ومع ذلك، فإن الأثمان التي سيتعين على الجانب التركي دفعها تبدو مضاعفة وأكثر تعقيدًا، وليس أكبرها حجمًا هو الانخراط في عملية لإنهاء الصراع لا تلبي طموحات المعارضة السورية ولا تطلعات البيئة الحاضنة لتركيا في الشمال السوري. فمن غير المتصور على الإطلاق أن تتخلى أنقرة عن علاقتها بالمعارضة السورية، أو عن دورها المحوري في سوريا قبل تحقيق أهدافها المعلنة، لأن هذه العلاقة وهذا الدور سيظلان ركيزة أساسية لسياستها في سوريا.

ولكن متطلبات التطبيع تفرض حتمًا تصميمًا جديدًا لهذه العلاقة ولوظائف هذا الدور. وقد تكون المزايا المتصورة في أنقرة ودمشق من وراء التطبيع تستحق مثل هذه التكاليف والتضحيات، ولكن المؤكد أن الوصول إلى التطبيع المنشود لن يكون ممكنًا إلا عبر دفع هذه الأثمان.

إن الظروف الراهنة المحيطة بمشروع التطبيع التركي السوري تبدو مواتية نسبيًا لنجاحه أكثر من أي وقت مضى، ولكن الرهانات على نجاحه لا تزال تنطوي على مخاطر حقيقية للفشل. ولا يزال من الصعب التكهن بما إذا كانت مزايا التطبيع، سواء بالنسبة لأنقرة ودمشق أو بالنسبة للفاعلين الخارجيين المؤثرين والمتأثرين بهذه العملية، ستتفوق في نهاية المطاف على العقبات والتحديات المحتملة.

ومع ذلك، فإن مشروع التطبيع – إن قُدر له النجاح – ستتجاوز آثاره مجرد إعادة تصميم العلاقات التركية السورية لتصل إلى نقل سوريا إلى حقبة جديدة تمامًا في مرحلة ما بعد الحرب، وتحديد دورها المستقبلي في الجغرافيا السياسية الإقليمية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة